موعد مع الانسانية عيادة الطبيب صورة مصغرة للعالم : مجمع لأشخاص يختلفون شكلا و وزنا و روحا و يشتركون مرضا . اليوم زرت الطبيب.ثورة جسديّة عشتها بسبب فيروس موسميّ لا مرئيّ تسلّل لجسدي بكل حرفية ، باغت جسدي الذي اعتاد الصمود أمام الغرباء. جيشيَ الدفاعيّ صبور مثلي،مشاكس مثلي، لا يعرف الاستسلام . لنا أنا و جسدي حكايا و حروب خضناها عمرا ـ و لله الحمد كنا نخرج المنتصرين فيها ـ فنحن نعتمد المساعدات الخارجية دوما لأننا ندرك محدودية قدراتنا الدفاعية و نؤمن بأهمية التكامل ـ لقد أصبحت لنا ثقافة طبيّة محترمة و معرفة بأدوية و عقاقير طيلة هذه السنوات ـ و بحكم خبرتنا أصبحنا نتسلّح لأيّ هجوم فيروسيّ أو بكتيريّ منذ البداية . أنا كريمة لكنّني هذه المرة لم أشأ استضافة هذا الفيروس. للكرم مواسم و هذا موسم العمل . أتيت بغير وقتك أيها الضيف. ما تُراني أفعلُ؟أنت ضيف ثقيل و معك يختفي قانون احترام الضيف و حُسن إكرامه.لمَ أجدُني دوما في صراع ثنائيّ؟ أهي جبريّة الخير و الشر تُحرّكنا بجاذبيّة الأطراف و تناقضاتها. أرهقتني أيّها الفيروس ، جسدي يؤلمني، لا أستطيع تحمّل الجلوس على الكرسيّ أكثر . جسدي يرغب في وضعيّة الامتداد هي الوضعيّة المثلى له الآن. غصبا عنك أيّها الجسد ستتحمّل هذا الكرسيّ. رأسي يؤلمني كثيرا ، ضجة كبرى تحدث داخله . يصعب عليّ أن أحدّد مصدر الألم كلّ رأسي يؤلمني . الألم كلمة قليلة الأحرف عميقة التأثير . أحيانا يُخيّل إليّ أنّ للألم ثأرا مع الإنسانيّةفهو يُصرّ على إيذاء الجميع .لا أحد لم يذق مرارة الألم يوما. هو مُبدعٌ في التجسُّد و مُمثّل عبقريّ يأخذ كلّ الأدوار فيُدقنُها و بأيّ شكل يتشكّل آلمَ. رنّة هاتف تُرجعني للقاعة. كم أحببت هذا الطبيب رغم أنّني لا أعرفه و لم أزره سابقا رغم علمي بكفاءته المهنيّة . الأقدار تختار مواقيتها دوما ، و هذه ساعة التعرّف عليه . الإنسانيّة هي صفته الأولى ،لم يُخبرني أحد عنها لأنّنا أصبحنا لا نقيس بمقياسها للأسف . إنسانيّته لامستها في الصور المعلّقة في قاعة الانتظار ، فبعد أن ملّ جسدي الكرسيّ ،كان يجب أن أشغله باهتمام يُنسيه إشكاليّة الجلوس .فجعلته بكلّ فضول يكتشف المكان. القاعة صغيرة لكنها تحترم مسافة التباعد بين الكراسي . و الممرضة تضع كمامتها و تأخذ حرارة كلّ قادم و تُعقّم يديه. الجدران تحمل صورا للقطط و تفسيرا لسلوكها . أخذتني القاعة و أخذت عقلي و جسدي للتأمّل فمن يحترم الحيوان و يعتبره كائنا سيحترم البشر حتما. ظللت أُتابعُ الصور و الألوان . هناك تناسق غريب يحمله هذا الحائط المقابل لكُرسيِّ . وسط القطط ـ مختلفة الألوان و الأشكال ـ توجد باقة ورود جوريّة اللون ، رُسمت بأناقة و إبداع حتى حاكت الواقع أو قاربت أن تكون حقيقيّة. تحت الورود لوحتان متقابلتان بشكل متواز تحمل كلّ لوحة تجسيدا لشجرة في الاتجاه المعاكس للوحة المقابلة فأنت تراهما تتكاملان كأنّ منهما خُلقت باقة الورود . و في حافة كلّ لوحة رجل و امرأة ينظران لبعض. الألوان رائعة ... شعرت و أنا أتأمّلها و أُتابع الخطوط المُنحنية و المنكسرة بكلّ تفاصيلها ، و الأشكال باختلافها ، و كأنّني في سهل أخضر وسط الأشجار المتشابكة . شذى الورود وصلني و أنا المزكومة ، و الإحساس بالجمال عايشته و أنا في قاعة انتظار. الصورة حرّكت نفسي كأنّها مُلخّص للدورة الحياتيّة ، فأركان الخلق فيها و أركان الجمال كذلك . الحائط لم يكن جمادا كما وجب أن يكون ، هو الحياة و الإنسانيّة و الجمال . إن كان حائطك أيها الطبيب يحمل كلّ هذا الحب فكيف بقلبك؟؟؟ انتبهت لمسألة : إنّ ما يجعل الأشخاص موطن ثقة لدينا هو إحساسنا بالحبّ تُجاههم كشعور إنسانيّ عفويّ و صادق . إننا إذا أحببنا الطرف المقابل سنأخذ قوله برحابة صدر و سنثق برأيه. هذا الشعور المنعدم عادة مع الأطباء للأسف . حيث أنّ جُلّهم يضعون هالة بينهم و بين مرضاهم تكون جدار فصل فتصبح تلك الميدعة البيضاء رُعبا. أنت أيها الطبيب الذي لم أره بعدُ ، ملأت روحي طاقة إيجابيّة بحُسن تخيرك لديكور قاعة الانتظار. عمق المكان كان مصدر علاج أوّل و روح الإنسانيّة المهيمنة عليه زادته جمالا ... جاء دوري . سأتعرّف على ملاك الرحمة أخيرا فهو يستحق عن جدارة هذا اللقب. عبيروس