هجرة غير شرعية وهجرة الأدمغة، وجهان لعملة واحدة إن كانت الهجرة الموصوفة ب”غير الشرعية“ وتلك المسماة ب”هجرة الأدمغة“ ظاهرتين منفصلتين تماماً في الصورة التي ترسمها وسائل الإعلام وسياسات التعامل مع الهجرة، فدوافع الرحيل التي تحث المرشحين لهذين الشكلين من الهجرة تتشابه أكثر بكثير مما يتصور البعض. ليس في تونس اليوم ما يُلهم مُخيلة أبنائها. وإن كانت البلاد قد أثارت فيهم الأمل بفتح صفحة جديدة عام 2011، فإن خمسين بالمائة من الشباب اليوم حسب استطلاع للمفوضية الأوروبية يريدون مغادرة البلاد. مما يجعل من الصعب الزعم بإمكانية تطلع هؤلاء الى مستقبل معقول في تونس. وبغض النظر عن الأجواء القاتمة هذه، ثمة رغبة لدى الشباب أكثر من أي فئة أخرى بالعيش في مكان آخر، في رؤية أشياء مختلفة. عدد الراحلين يتزايد، بحراً وجواً. ثمة ظاهرتان في هذه الحركية يجري تداولهما في النقاش العام: من ناحية هناك ما يسمى بالهجرة غير الشرعية ومن ناحية أخرى ما يدعى بهجرة الأدمغة. ميناء الصيد بجرجيس عالمان قد يبدو الواحد منهما منفصلاً عن الآخر لو أخذنا بعين الاعتبار الجدران الفاصلة التي تقيمها وسائل الإعلام والطبقة السياسية بين الظاهرتين. عالمان لا يلتقيان، لا يتقاطعان، يسيران على خطّين متوازيين. فبعض المهاجرين حسب هذه النظرية يدفعهم البؤس الى الرحيل، في حين يرحل آخرون رغبةً بأجر يرفع من مستوى معيشتهم فيضمنوا لأنفسهم حياةً أفضل، في البلدان القليلة التي تفتح لهم ذراعيها. الرحيل لفتح أفق الإمكانيات ”شيئاً فشيئاً بات الرحيل يشكل ثقافة قائمة بذاتها في جرجيس“، هذا يتضح لنا من القائمين علي الأنشطة في جمعية الأطفال المصابين بالتوحّد والمدرب في فريق الفتيان المحلي لكرة القدم المسمى بالترجي الرياضي بجرجيس. هذه المدينة الواقعة جنوب شرق تونس بين جزيرة جربة والحدود مع ليبيا تعد 72.000 نسمة وهي بحكم موقعها منطقة مميزة للإبحار باتجاه أوروبا. دور العائلة المحوري غالباً ما تلعب العائلة دوراً حاسماً في قرار الرحيل. بعض المهاجرين، الذي يبلغ من العمر 43 سنة، يسافرون مع عائلتهم بهدف منح أطفالهم بيئة معيشية أفضل. يقول بأسف: ”في تونس ما تُعلِّمْه لأولادك، مثل رمي النفايات في صندوق القمامة، على سبيل المثال . ”أنهكتني كل التفاصيل الصغيرة التي تثير أعصابك الى حد الجنون كقيادة السيارات والتواصل مع الهيئات الإدارية“. نفس الشيء بالنسبة المهاجر اخر ، وهو أب لخمسة أطفال، ويريد السفر مع عائلته حالما تسمح له الأحوال الجوية بذلك. فهو يرى ”أن تكاليف العيش فاقت المعقول ونفقات الصحة أصبحت باهظة“. بالنسبة للأصغر سناً تشكل العائلة عاملاً يدفعهم للبحث عن منفذ الى الخارج.، مع أنه لم يسافر يوماً، يتفهم ما يمثله السفر من جاذبية: ”تعيش مع أهلك، وهناك أمور عديدة لا تستطيع القيام بها أمامهم، وهم لا يكفّوا عن إصدار الأوامر وعن منعك القيام بكذا وكذا- خاصة إن كنت فتاةً، ففي هذه الحال، نعم، تبدو فكرة الرحيل مناسبة، وبعد أن تكون قد اكتسبت تلك الاستقلالية ، فلا رجعة في ذلك“. هاجس اليورو خلافاً للصورة النمطية التي تزعم بأن اليأس والبؤس والبطالة وحدها تدفع باتجاه الإبحار من جرجيس، فإن الرغبة بحياة أفضل ونجاح مالي في أراض تكون فيها الأمور ميسرة بشكل أكبر هي أيضاً من الأمور التي تشجع على السفر. وهذه مسألة لا يمكن إغفالها، فإن كان الذين يعانون من البطالة مصممين على مغادرة بلادهم فهم يلتقون في رحلتهم هذه بموظفين أو حتى بقاصرين لا يرافقهم أي أحد من أولياء الأمور كالفتيان أعضاء نادي جرجيس لكرة القدم. وهؤلاء يعتمدون على القانون الذي لا يسمح بطرد القاصرين في أوروبا، ليستقروا فيها. في الحقيقة لم يمنع هذا القانون السلطات الإيطالية من ترحيل القاصرين حال وصولهم بحجة أن عمرهم الحقيقي أكبر من ذلك وهو الأمر الذي حصل بالذات لفتيان نادي جرجيس. قوارب تم استعمالها في عمليات هجرة غير شرعية وتمت مصادرتها من الحرس البحري وحسب نقابة المهندسين التونسيين فلقد غادر ما يقارب ال10.000 منهم البلاد منذ 2016. وعلاوة على مسألة الأجور فالمهندسون في بداية سيرتهم المهنية يعانون من مشاكل خاصة بمهنتهم. إن سياسات الهجرة الانتقائية التي تنتهجها بلدان مثل فرنسا وألمانيا وكندا تتستر وراء عبارات مثل ”هجرة الأدمغة“. سياسات الهجرة لدى البلدان الغربية، والأوروبية منها على وجه الخصوص، تُقَولِب التغطية الإعلامية في تونس نفسها حول قضية الهجرة كما تؤثر على السياسة المتبعة تجاهها. فمن ناحية تقوم هذه السياسة التونسية بالتدقيق في الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية لأعداد المهاجرين غير الشرعيين المتجهين الى إيطاليا كما تشجب سلوك المهاجرين الذين لا يتمسكون بالبقاء في بلادهم وإقامة مشاريع فيها. ومن ناحية أخرى تعبر الدولة عن قلقها من ”الهجرة المكثفة للأدمغة“ أو ”النخب“، من مهندسين وأطباء، دون أن تجرؤ على إعادة النظر في الأوضاع التي تجعل المهاجر يرحل بسبب الكسب الضائع، هذه الأوضاع التي تتفاقم من جراء سياسات الهجرة الانتقائية التي تنتهجها الدول الغربية والتي تتسبب بهجرة الأدمغة.