متى يتحقق الإستقرار السياسي المؤسساتي للتفرغ للتنمية في تونس بقلم د. الصحراوي قمعون صحفي باحث في الإعلام والصحافة عرفت تونس خلال العشرية الماضية منذ انتفاضة 14 جانفي 2011 دستورين اثنين وثلاثة برلمانات في انتظار الرابع ، فيما بلغ عدد الحكومات المتعاقبة منذ ذلك التاريخ عشر حكومات كان لها ابلغ الاثر في تردي الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتراجع كل مؤشرات التنمية والاستقرار السياسي والمؤسساتي . ولكن البلاد كانت تمر في ذلك الوقت بفترة سقوط نظام وانتقال سياسي مست كل القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والاعلامية، وأدت إلى حصيلة سلبية لتلك العشرية التجريبية في كافة القطاعات المذكورة. وكانت تلك التحولات مسقطة عموديا واندرجت في اطار ثورات ما أطلق عليه الانتقال الديمقراطي للربيع العربي الذي تحول الي حروب دموية وحروب أهلية في كل من سوريا وليبيا واليمن دمرت الدولة فيها وحطمت فيها ما تم بناؤه بكل فخر واعتزاز من طرف الدولة الوطنية المنتشية بالاستقلال وباستعادة السيادة والكرامة والهوية من قوى الاستعمار القديم لتسقط فريسة قوى الاستعمار الجديد، كما توقعته كتابات الدراسات المستقبلية لما بعد دولة الاستقلال.. وفي نظر المراقبين والمؤرخين فقد سلكت تونس في بداية استقلالها نهج أغلب بلدان العالم الثالث ولم تشذ عن القاعدة وهو النظام الاشتراكي وأقرت على المستوى السياسي نظام الحزب الواحد الحاكم دون تداول طوال تلك العشريات الخمسة من 1956 الي 2011 . وفي تلك السنة الرهيبة التي تذكر بظروف احتلال ليبيا والمغرب قبل قرن كامل عام 1911 من طرف الطليان والفرنسيين والإسبان ، كان هناك توافق بين القوى الإقليمية الأوروبية، من اجل اطلاق موجة لنشر الديمقراطية وتكريس الإنتقال الديمقراطي كمظهر من مظاهر سيطرة الغرب الليبرالي الديمقراطي المهيمن على مصير العالم . وقد حققت تونس في ذلك السياق المعولم شكليا انتقالا سلميا للسلطة عام 2011 من أيدي الدستوريين التحديثيين التقدميين وحلفاءهم من اليسار الذي حكموا منذ بداية الاستقلال، إلى أيدي الإسلاميين المحافظين التقليديين وحلفائهم من القوى الحقوقية القريبة من مراكز القرار والضغط الأوروبي الأمريكي. أين الحاضنة الديمقراطية ؟ وإذا كانت تونس قد حققت ذلك الشكل من الديمقراطية في محيط داخلي غير ذي حاضنة ديمقراطية متجذرة ، رغم قدم حركتها الإصلاحية السياسية الدستورية والإعلامية منذ أكثر من قرن ونصف، مع اول دستور عهد الامان عام 1861، ومحيط خارجي مسقط عموديا من وراء البحار، فإن نذر ومظاهر الفشل كانت بادية للعيان في المجال الاقتصادي والاجتماعي وفي المجال السياسي والفكري حيث لم تعوض المؤسسات الديمقراطية الناشئة بنجاعة المؤسسات السلطوية القديمة المنتصبة في الحكم طوال نصف قرن من الاستقلال. ولم يستطع الذين فككوا المنظومة القديمة، بمراسيم استثنائية إرساء منظومة بديلة لها ، مما أسفر عن فراغ سلطوي وإداري واستشراء للفساد. بل ان تلك المنظومة الجديدة جرى تفكيكها بنفس السرعة الصاروخية وبمراسيم استثنائية غداة 25 جويلية 2022. نظام سياسي هجين لقد كان النظام السياسي الذي اختاره ماسكو السلطة الجدد غداة 2011 خليطا هجينا من النظام البرلماني والنظام الرئاسي حد البدعة، يكون فيه الرئيس منتخبا مباشرة من الشعب ولكن لا صلاحيات له، في حين يظل رئيس الحكومة مرتهنا للبرلمان الذي يدير اللعبة ويملك الصلاحيات الكاملة بلجانه المتغولة وكتله المتقلبة، كما في "جمهورية فايمار" في ألمانيا مابين الحربين، ولا أحد يمكن أن يهدد جبروت المجلس النيابي حد التغول علي باقي السلطات التنفيذية والقضائية والاعلامية ، بما يجعل منه حسب تعليق إحدى الصحف "نظاما برلمانويا أشد سلطة من النظام الرئاسوي المطلق" . وقد ازدادت حدة إشكالياته وعوائقه عدم وجود سلطات تحيكيمية مثل المحكمة الدستورية التي لم يقع تركيزها كما ينص عليه دستور عام 2014 لحسابات سياسوية ماكيافيلية ، في حين انعدمت المؤسسات الوسيطة بعد أن أغلق المجلس الاقتصادي والاجتماعي كفضاء حوار والغرفة الثانية للبرلمان (مجلس المستشارين) المراقبة للأولى، وذلك منذ الأيام الأولي للتحول الديمقراطي لعام 2011. وفي غضون ذلك ظهرت كالفقاقيع هيئات دستورية وحقوقية في غمرة نشوة الثورة وصعودها الشامخ، وأصبحت تزين المشهد التعددي، ولكنها أصبحت بالمقابل عبئا ماليا على الدولة انضافت إلي العبء المالي للإدارة الثقيلة، وزادت في تضخيم البيروقراطية الادارية ببيروقراطية حقوقية هيئوية لاوجود لمثيلاتها بذلك الحجم في البلدان الديمقراطية القريبة منا في أوروبا حيث هناك المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية التي تنشط دون أن تمثل عبئا إضافيا على مصاريف الدولة في شكل أجور وسيارات وظيفية وقصاصات بنزين. تونس المحظوظة ورغم هذه الهنات التي وصلت إلي حد تنازع السلطات علنا بين رؤوس الدولة الثلاث في الرئاسة والبرلمان والحكومة وشلل العمل المؤسساتي والحكومي والتشريعي عام 2021 ، فان تونس تعتبر محظوظة حيث خرجت من هذا الإعصار الإقليمي المفروض من الخارج بأخف الأضرار نسبيا، ولكن معطوبة الأوصال تتطلب تأهيلا شاملا في العقلية والبنية التحتية الفكرية والسياسية والاقتصادية والإجتماعية والثقافية عبر تصحيح المسار الديمقراطي التعددي ومأسسته حتى يقوى ويشتد عوده ويقاوم دعوات النكوص والردة الحضارية، ويقاوم قوى الشد إلى الوراء، مبتعدا عن الغوغائية والشعبوية والشعارات الرنانة التي لاتسمن ولاتغني شعبا تردت أوضاعه المعيشية إلى الدرك الأسفل من الفقر والتضخم تحولت فيه الطبقة المتوسطة إلى طبقة فقيرة في حين تدنت الطبقة الفقيرة إلى مستوى الإملاق والتسول والطوى. إن المطلوب اليوم هو الخروج دون رجعة من المزايدات السياسوية واستكمال تركيز مؤسسات دستورية قارة تحقق الاستقرار المؤسساتي اللازم للانتعاش الاقتصادي وحفز الاستثمار والتشغيل ورفع مستوى عيش السكان. وعلى ضوء حصيلة التجارب السابقة بسلبياتها وإيجابياتها، فإن المطلوب اليوم تركيز باقي المؤسسات الدستورية القارة والفاعلة التي نص عليها الدستور الأخير لعام 2022 والتي تضمن التعامل السلس بين مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإعلامية، بعيدا عن المثالية المراهقة والشطط الحقوقي الذي وقع تجاوزه في الغرب نفسه المعولم ديمقراطيا ومصلحيا. ولم يبق من رواسب له إلا عند بعض "ديمقراطيات" العالم الثالث الناشئة المتشدقة بالديمقراطية الديكورية الخاوية المؤدية إلى الفشل والحروب والتناحر. إن المطلوب في هذا السياق أيضا سلطة تنفيذية دستورية قوية وسلطة تشريعية كاملة تقوم بدورها الرقابي والتشريعي وتساهم في دفع العملية السياسية والنمو الاقتصادي والاجتماعي، نبراسها الأول المصلحة الوطنية، على غرار ما هو موجود في فرنسا القريبة منا ثقافيا وإعلاميا وسياسيا، حيث يستمر دستور الجمهورية الخامسة فاعلا وناجعا منذ إقراره من طرف الزعيم شارل ديغول عام 1958. وقد استطاع تجاوز الهزات السياسية والإشكاليات التي طرحت على الحكم بفضل أليات التحكيم ووجود مخارج النجدة فيه، مع التزام الجميع بالمصلحة العامة للدولة وضمان أليات وسيناريوهات التعايش بين أغلبية برلمانية معارضة وأقلية للرئيس المنتخب مباشرة من الشعب. ولرئيس الدولة فيه صلاحيات واسعة تتقوى مع أغلبيته البرلمانية. ويبقى المجلس الدستوري المبسط في تركيبته والمتكون من تسعة أعضاء معينين من رئيس الجمهورية (3) ومن غرفتي البرلمان العليا والسفلى (6) هو الحكم الفصل في كل الإشكاليات الدستورية. وله الحسم في دستورية القوانين. وهو يشتغل بهذه الأليات منذ 1958. فهل نكون ملكيين أكثر من الملك؟.