رواية سيريّة...تناولتها المقاربات النّقدية المختلفة وكتب عنها قراء ونقّاد من الوطن العربي .. قدّمها الدكتور محمد صالح ربيع من العراق أروع تقديم قال عنها قصّة دراماتكية فاعلة...تعبّر عن خلجات نفس متعبةجريحة وجرحها عميق...متأمّلة بقدر ماهي متألّمة...تعالج آهات زمن انقضى وتقدّم لزمن آت" وهي سيرتيّة بامتيازلرجل مثقف من بلادي ثائر لم يرض أن يكون بوقا يردّد أصداء قبحهم فهو اليانع أبدا منذ طفولته رغم بؤسها الى مراهقته الى حدّ خروجه للوظيفة العمومية ثم رحيله وعودته الى أرض الوطن . وعلى صعيد الإبداع كان هذا المنجز عصارة لما جرّ من أحلامه ورؤاه ...منجز مثير من جوانب عديدة على صعيد بنتيه وطبيعة الخطاب والشخصية المحورية وهي تشدّ قارئها لما تميّزت به من حبكة وبناء متماسك لفصولها .. وثمّة فيها ما يجعلنا ننسبها للسيريّة كما تفضّل الروائي للإشارة إليه على الغلاف ...ومن سرد بضمير الغائب وسوق لأحداثها وتفاصيلها من ذاكرة الأيّام أمّا السيرذاتيّ فقد بدا جليّا من خلال أشعاره وقصائده بضمير المتكلّم ليشعرنا أنّه موجود وأنّه هو عبدو المعنيّ.. أمّا أحداثه فهي طغيان واضح جليّ للواقع بصدقه ممّا لايجعل قارءه يرتاب في صدقها وحدوث تفاصيلها ..أعطى كل مراحل فصولها وأزمنتها أسباب الجذب والإغواء فتوفرت الحبكة الفنية الجيّدة فيها . عبدو البطل الرئيسي والشّخصيّة المحوريّة الرّئيسيّة ...حاضر في المواقف الصّعبة التي مرّ بها .. لم يكن همّه الكرسيّ ولا المنصب ولا تقرّب للسّلطان وآل السّلطان .. سلك طرق المخاطر ولم يكن يعنيه أن تصيبه رصاصة تغتال فكره قبل جسده عبدو " بطل هذا العمل يروي سيرته " بخطى كتبت عليه وهو القائل ومن كتبت عليه خطاه مشاها" خطى وزّعها على عناوين فرعية طفولة بائسة... المرحلة الثانوية ..مراهقة ..حبّ...خيبة الموظّف.. اسباني..قهر التاريخ الرّحيل العراق ..حلم ...حضارة ...حرب.. بؤس السياسة وسياسة البؤس وهي عناوين في ذاكرتها رحلة مكتظّة مترعة بأشجانه وهمومه وربّما قليل من الزّهو لتجربة عميقة مع صروف الحياة وقد شكّلت عتبات دخول إلى كون هذا المبدع ومحطات حياته الممتدّة على سنين العمر .. الطفولة والمراهقة وسن الشباب والوظيف شكّلت الخامات والخبرة الأولى للرّاوي وأخذت نصف عدد صفحات الرواية .. فهي أولويّة الكتابة السيريّة وهي وردت غير مجمّلة ولا مُتْقَنة إذ لم يُغفلْ في سردها الجانب المتجهّم فيها والصّدق في مثل هذه الأعمال الرّوائية يعدّ مرتكزا أساسيّا لا يُمكنُ تهجينه . يقول الرّاوي عن طفولته البائسة بدأ حياته تحت خيمة الشعر..وكانت منزلهم في ركلّ الفصول كان عبدو غالب الوقت حافي القدمين..يلبس ثوبا دائريّا الشكل في نهاره وليله يحمل في مخلاته كسرة من الذّرة أو البشنة ليس له طاولة ولاكرسيّ ... ولأنّ خطاب السيرة الذّاتية ليس سواء سرد للذأت أحيانا فهو ينطلق من داخله نحو خارجه ... استعمل ضمير الغائب غالبا و المتكلم هو الأنسب عادة كمرجعية داخلية لصاحبه ورغم هذا قد بدا متحكّما في مجاهل النّفس وغياهب الرّوح فعرّاها بصدق وقدّمها للقارئ كما هي في أعماقه ...ولم يغب كمتكلّم من خلال قصائد وأشعار مبثوثة هنا وهناك .. كما أنّه لم يخذل قارءه..فحطّ به عند بعض من أفراح طفوليّة مارس فيها تعاطف الآخرين معه لتفوّقه على أقرانه وخاصّة في تصريف أفعال من قبيل naitre ...mourrir وهي فعلا أفعال qui appartiennent au troisieme groupe et qui sont frequents ومن يهتدي إليهم تحق له المفاخرة .. ومساجلات شعريّة ..وقفز ..وجري ومطاردة للطيور وركض وراء اليرابيع واعتداء سافر غير مبرر على شاشية عمه... إنّها متعة السّرد الذأتي الذي لا تغيب عنه المتعة رغم ما يحكمه من خذلان وفقر وتهميش .. وأيّة قيمة لسرد لا يُمتعُ؟ وفي مرحلة أخرى مراهقة وحب وخيبات كمين اعترافات بالهزيمة والإحباطات ..وعثاء بوح صريح عن مراهقة وأحاسيس وحكايا عن تفاعل الذّات مع الواقع وهويّة الشّخصيّة العربية .. تداع وتذكر واسترجاع .. كلّها ساعدت على اضاءة ملامح عبدو مستقبلا..فتسرّب وهج وشرعية القضية الفلسطينية الى اعماقه وأنفاقه والقضية هذه تصنّف ابداعا عربياوالتعاطي معها في النّص الروائي يروّج له كما قال النّقد ... و بداية رحلة للقبض على الحقائق والرهانات الكبيرة بتحدياتها .... "جرثومة مسرح كما وصفوه ومحاولات في كتابة الشعر.." كما سمّوه ويتجلّى عبر الصفحات الوعي والصّحو وصراع عبدو وطريقه الوعر ..فنعيش جحيم التلّقي من خلال الفصول القادمة.. رياح تثور وهول يدور وكلّي أدوريصبّ العذاب ويلبس للقلب ثوب عذاب أول الخذلان والإحباط أن يكون عبدو المتفوّق في دراسته ابن الرّيف الذّكي في وظيفة مهمته فيها مراقبة التلاميذ أوقات الفراغ....موقع هامش لكنه أضفى عليه من فكره الثائر الكثير .. يقول في روايته كم من مرّة اختلف مع القيّم العام ومع المدير حول كيفية التعامل مع التلّاميذحتى اصبح مقلقا وغير مرغوب فيه صديق لأولاد احمد الشاعر الثائر ...لمحمود الحرشاني الصّحفي الجريئ للشافعي السليمي الصّوت القوي.... ولعلّ مايلفت النّظر في هذه الرواية في بقيّة فصولها اتمام دراسته بالعراق بعد رحلة الى اسبانيا التي قال عنها انها قهر للتاريخ لعظمة ما راى ..قرطبة ..غرناطة بقصرها الاحمر ..وانتكاس حضارة برمتها بسبب اللّهو والتّرف والمجون الذي انغمس فيه حكّامها .. وهو انزياح سرديّ فهو يبدأ في تحويل وجهة المتلقي الى وجهة جديدة ويسير بعدها السرد في كلّ أتّجاه وصوب سنشبكه في الفصول اسبانيا وقهر التاريخ ..الرحيل...العراق حلم..حضارة ...حرب رحلة العراق متاعب مؤجلّة ...شد الرّحال تاركا ابوين طالبا رضاهما والى حبيبة كتب أجمل وأعتى رسائل الحبّ أحببتك فعلا ...اشدو باسمك كالمحارب..." كل ما بدخلي يحترق .. وكلام عن الحبيبة وعن الحب حارق قاتل العراق ..حضارة..حلم..حرب تحقيق بوليسي ومحاصرات .. "عبدو" من جماعة البعثيين... تجميع الأزمنة بماضيها وحاضرها ومستقبلها ...حضارات متباعدة وانتقال من مكان الى آخر ومن زمن الى آخر بؤس السياسة وسياسة البؤس..فصل أخير في الرّواية تحرر المتلقي من وطأة الزّمن ومواقيت الكتابة .. العودة الى الوطن تزامنت مع عهد التغيير السابع من نوفمبر 1987وصولا الى ثورة الربيع العربي جانفي او ديسمبر 2011 .إلى تصحيح المسار في 25 جويلية 2021... ليظلّ متأمّلا ..مدينا ...تائقا إلى واقع أفضل... ثقافة المقهورين تصارع ثقافة الأسياد المستبدين ...فهو يستبق الممكن بأدوات الكتابة ...بيد المبدع...بفكره.يكتبشعرا نثرا قصّة رواية جذور النخل أوردتي ووهج الرمل أغنيتي أموت اليوم في يافاوأولد في المحمّرة يجري في مضمار تحرريّ ..يواكب اللإجتماعات السريّة صادحا برأيه...يجالس المثقفين من طينته للنقاش والتحليل والفهم لمجريات غريبة عن ثقافتنا وحضارتنا والرّاوي لا يتوانى خلال هذا الفصل عن الإصداح برؤاه كمثقف فيشير بجرأة ألى أعداء الديمقراطية الذين أفرغوها من معناها فصارت انفلاتا ..واستوجبت عنف التّصدي .فأورد التّواريخ الدّقيقة بتفاصيلها المظبوطة ...مصرّا على تسمية الأشخاص ما أمكن وما استوجب..وقف بنا عند تحول السابع من نوفمبر وما آل إليه الحال من فساد واستغلال للسّلطمذة من العائلة المالكة...وما حدث له من ملاحقة واقتياد الى "الجيول"... وما يلفت النّظر في الفصل الأخير من روايته حديثه عن ثورة الربيع العربي وسقوطها في هيمنة معينة ومعيقات واتجاهات انتهى بتفكيك الدولة والتّنوّع العقائدي المخرّب للتّعايس والمشعل للحروب الأهلية ... أختم بالقول إنّ هذا المنجز الرّوائي "ذاكرة الأيّام " للمبدع عبد الرحمن ابراهيمي بها ما يوجّه المتلقي والقارئ فيها إلى التّمعّن والتّقصي بكثير من الألم والأمل تطلّعا للزّمن الآتي ...فمن خلالها واجهنا وعيا روائيا يستبطن مبدعا في كينونته الذّاتية يجترح من عمقه رؤاه الفكرية وما حاصرها من ضغوطات وارهاصات ...بايقاع ذاتي بحت وقفنا فيه على تميّز .. وتبقى القراءة جهدا خاطئا ينتظر قراءات أخرى تضيئ ما أُغْفلَ عنوة وعن قصد حتى لا تهتك كلّ أسرار المنجز الكتابي ..