بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في 18 ديسمبر: هل تساهم الصحافة والميديا في إحياء اللغة العربية بقلم د. الصحراوي قمعون صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة تتجدد اللغات حسب سياقها التاريخي بين عصر التقدم وعصر الانحطاط كما جرى للغة العربية بين العصرين مع مجدديها الذين أعادوا إحياءها وضخ دماء إبداع جديدة فيها سمحت لها بالانتشار الواسع والمساهمة في المسيرة الانسانية لتطوير العلوم والمعارف. وعموما، لايبدو هناك خطر على اللغات الحية من الانقراض والذوبان، بل إن احتكاكها مع الآخر، هو تجديد لها، أخذا وعطاءا. وهو ماتبينه حالة اللغة العربية الجيدة حاليا، رغم محن الغروب الحضاري التي مرت عليها طوال قرون الإنحطاط والجمود الأخيرة. وتمكنت من ذلك الثبات في هذين القرنين الاخيرين ، بفضل جهود إحياء لغة الضاد وتجديدها منذ حركة النهضة الفكرية والصحفية والثقافية والعلمية التي شهدها العالم العربي مع بواكير الحركة الاصلاحية للقرن التاسع عشر والمتواصلة إلى اليوم بزخم كبير. وقد لعبت الصحافة دورا محوريا في هذا التجديد الفكري والكتابي منذ ظهور أولى الصحف العربية وفي مقدمتها جريدة "الرائد التونسي" منذ أكثر من قرن ونصف عام 1860. وتساهم الصحافة اليوم أيضا في هذا الإحياء للغة العربية بتطوير مخزونها من الكلمات العصرية المتداولة في وسائل الإعلام السيارة من صحافة ورقية وإلكترونية وإذاعات وتلفزيونات ووسائط للتواصل الاجتماعي من فايسبوك وتويتر وانستاغرام حيث يتجول فيها بكل راهنية مع صناع وصانعات المضمون، أشعار كل من امرؤ القيس وجميل بثينة وقيس بن الملوح وليلاه وعمر بن أبي ربيعة وتحرره من القيود وكذلك أغاني أبي الفرج الإصفهاني في موسوعته الادبية الغنائية الشهيرة التي قضى خمسين سنة كاملة في تأليفها وهو يجمع محتوياتها ويتثبت في صحة مصادره وفي كل أشكال الفايك نيوز المدسوسة، قبل التدوين التوثيقي النهائي. لغة حية وثرية وإلى اليوم، لازالت لغة الضاد تعتبر لغة حية وثرية، حيث تفيد أرقام منظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم "اليونسكو" التي أقرت منذ عام 1973 يوما عالميا للغة العربية هو 18 ديسمبر من كل عام ، أن اللغة العربية توجد اليوم على رأس اللغات العالمية التي لها أكبر عدد من الكلمات سواء المستخدمة أو المهملة . وهي تعد اثني عشر مليون كلمة، تليها اللغة الانجليزية بستمائة ألف كلمة، ثم الألمانية بمائة وستين ألف كلمة، ثم الفرنسية بمائة وخمسين ألف كلمة، فالروسية بمائة وخمسين ألف كلمة... ويعزى هذا العدد المهول من مفردات العربية إلى أنها كانت طوال القرون الوسطى لأكثر من ستة قرون هي لغة العلم والأدب والفلسفة في الحضارة العربية الاسلامية ذات الطابع الكوني المعولم . كما ظلت العلوم والطب والفلك والجبر والفلسفة تدرس باللغة العربية في كثير من ممالك أوروبا حول المتوسط، حتى عصر النهضة الاوروبية. وكانت الإنتاجات الفكرية والعلمية والتقنية والمبادلات التجارية وما يتبعها من مصطلحات وكلمات مستنبطة تظهر حصريا في العالم الاسلامي باعتبار البيئة العلمية المزدهرة ، كما تظهر اليوم في العالم الانجلوساكسوني في أمريكا وبريطانيا، ومنها تنتشر في أوروبا المتعددة التي تستعمل الانجليزية كلغة أولى أو ثانية في بحوثها العلمية واختراعاتها التكنولوجية التي تضيف كل يوم مفردات جديدة بحكم التطور المسجل في هذه البلدان الصناعية المسيطرة على دواليب الاختراعات الصناعية والمعلوماتية والذكاء الاصطناعي والبحوث الفضائية الممهدة لغزو كواكب جديدة والتحضير الاستيطاني فيها مثل كوكب المريخ المبرمج استيطانه بعد قرن من اليوم عام 2121. وهي مخططات تعكس همة الإنسان لاكتشاف ما وراء الطبيعة وتطويعها واختراع الجديد، حين يكون موجودا في بيئة حاضنة للعلوم والاكتشافات، كما هي عليه الأن المجتمعات الغربية التي تصدر منها كل يوم مئات وألاف الإكتشافات وبراءات الاختراع التي تتحول إلى مواد مصنعة يقع تسويقها في المجتمع الاستهلاكي في بلادها المنتجة أو عبر العالم وتنتج مفردات لغوية جديدة وانتاجات فكرية وكتبا تغذي المكتبات . وفي القرن الحادي عشر الميلادي كانت مكتبة بيت الحكمة في كل من بغداد والقيروان تضم عددا كبيرا من الكتب والمخطوطات. كما كانت مكتبة الحكم الثاني أحد ملوك الاندلس الامويين تضم أكثر من أربعمائة ألف مخطوط، في حين كانت أكبر المكتبات الأوروبية لاتمتلك أكثر من مائتي كتاب . ويمكن المقارنة اليوم بين كبرى مكتبات العالم العربي ومكتبة الكونغرس الأمريكي التي تعد لوحدها ثمانية وثلاثين مليون كتاب وسبعين مليون مصنف. لقد كان العالم الاسلامي في العصر الوسيط مهد العلوم والاكتشافات والاختراعات اليومية لعلمائه في بغداد وقرطبة، كما تدل عليه أمثلة كثيرة من علمائه مثل عالم الفلك الأندلسي عباس بن فرناس (810م-887م) الذي كان مهووسا بالطيران والفضاء والكواكب وكان أول إنسان يحاول الطيران والتحليق لدقائق متخلصا من جاذبية الأرض. كما كان في رصيده أكثر من مائة اختراع علمي، لعل أبرزه اختراعه لأول مرة نظارة طبية وساعة مائية أطلق عليها تسمية "الميقاتة". وفي مجال الكتابة اخترع أول قلم حبر في التاريخ حيث صنع اسطوانة متصلة بحاوية صغيرة يتدفق منها الحبر حتى نهاية الاسطوانة المتصلة بقلم مدبب للكتابة . دور بارز للعلماء والجامعيين والصحافيين في ألانتقال الحضاري واليوم يبقى للعلماء والجامعيين دور بارز في تيسير عملية الانتقال الحضاري للعرب والمسلمين من الدونية إلى الندية ، عبر المساهمة في الترجمة العلمية وتوظيف الإطلالة الإعلامية الجماهيرية الواسعة لتقريب العلوم من الجمهور الواسع . كما يبقى لرجالات الإعلام دور محوري لا يختلف عن فئة العلماء في ذلك. ويمكن في هذا الصدد للاعلام كوسيلة اتصال جماهيرية أن يلعب بوسائطه المختلفة اليوم دورا حيويا في إثراء المصطلحات العلمية ونشرها بشكل صحيح لتصبح متداولة في المجتمع. فالإعلام هو المتلقي الأول للمعلومة العلمية والتقنية القادمة من الغرب المنتج فور ظهورها في مهد الإنتاج بأمريكا أو أوروبا أو آسيا. والإعلام هو الباث الأول لتلك المعلومة نحو المتلقين، وهو ما يفرض عليه أن يكون سباقا في تناول المفاهيم والمصطلحات المناسبة والإلمام بها من أجل ترجمة صحيحة تنقل المفاهيم المستخدمة التي تزخر بها النصوص العلمية المتخصصة بشكل يضمن الحد الأدنى من السلامة اللغوية المرتبطة بالعربية وإرثها العلمي القديم والتكيف مع الانتاجات العلمية والتقنية الجديدة المتسارعة كل يوم وكل لحظة. وهي إنتاجات في تنافس مع سرعة وسائل الإعلام وآنية البث في إيجاد العبارة الصحيحة والكلمة السليمة والترجمة الدقيقة لنشرها في وسيلة الإعلام التي تتعرض هي نفسها إلى ضغط عامل وعنصر سرعة الزمن وضغوط حجرة الأخبار بآنيتها التي لا ترحم، في سياق سباق محموم ومنافسة بين وسائل الإعلام على إيصال المعلومة قبل الآخر. وبفضل نبوغها الادبي والعلمي السابق وما تتميز به من إرث ابداعي، تجد اللغة العربية نفسها متمتعة بقدرة لامحدودة على توليد المصطلحات الجديدة واستيراد الكلمات من اللغات الأخرى وصهرها في قالب عربي مجدد وتطويعها وتعريبها معنى ونطقا ، مستغلة الثراء الواسع للتفعيلة العربية والاشتقاق اللغوي فيها بأشكاله الصغرى والكبرى والأكبر والكُبَّار بنحته الإسمي أو الفعلي أو النسبي. وهي تتمتع بمقومات الثراء والتعدد والتنوع والقدرة على التعبير وتجسيد المعاني والمواقف المتعددة، لأنها تطورت بفضل مساهمة المتكلمين بها من أمم وثقافات لغوية مختلفة في عصر ازدهارها المعولم في العهد العباسي خاصة. بل إن قمة الأريحية والروح الرياضية للغة العربية أن قواعد نحوها وصرفها وتفعيلة بحور شعرها العربي وضعها النحوي سيبويه الفارسي الأصل والذي يعني لقبه في الفارسية "رائحة التفاح"، كما كان يتفكه بذلك في مجالس بغداد المدينة العالمية الاممية الكوسموبوليتية المفتوحة لقرون على كل الأجناس والأفكار والملل والنحل.