من بين كل زملائه.. كان شهاب طالبا منكفئا على نفسه.. قليل الاختلاط بزملائه.. كان فخورا بانتمائه إلى شعبة علم الاجتماع التي تمّ توجيهه إليها بعد نجاحه في الباكالوريا.. لم يكن منجذبا كبقية زملائه الطلبة إلى ما كان يدور في الجامعة من حراك طلابي سياسي.. كل همه كان أن ينجح في دراسته ويعود إلى مسقط رأسه ليسعد قلب والده وقلب والدته والجيران.. والده عامل يومي.. ولولا أن رئيس الشعبة يقدر ظروفه فكان يسجله باستمرار في الحضيرة الموسمية ما كان له أن يقدر على أن يوفر متطلبات الدراسة لشهاب ولبقية إخوته الآخرين.. عندما نجح شهاب في الباكالوريا أقام له والده احتفالا. ودعا الأهل والجيران لمشاركته في نجاح ابنه.. ويومها اشترى شاة سمينة وأولم للأهل والجيران وكانت قصاع الكسكسي باللحم حاضرة.. حيث أكل الجميع وكانت ليلة من أحلى ليالي القرية.. قدم شهاب إلى العاصمة لأول مرة وسجل في كلية علم الاجتماع.. هو يحب هذا الاختصاص وخلال الصائفة التي تلت نجاحه أمضى أياما وليال يقرأ مقدمة ابن خلدون واضع علم الاجتماع فازداد فخره بأن تمّ توجيهه إلى هذه الشعبة مع ما كان يتمتع به من موهبة في الكتابة الأدبية... فعندما كان في المعهد الثانوي كثيرا ما نشر بعض أقاصيصه وأشعاره في مجلة المعهد.. وكان أساتذته يشجعونه على مواصلة الكتابة وصقل موهبته الأدبية بمزيد الإقبال على القراءة والمطالعة.. هو معجب بالمسعدي رغم ما يعتري أسلوبه في الكتابة من صعوبة في الفهم.. قرأ كتاب السد وأعجب به ويعجبه صراع غيلان من أجل البقاء والاستمرار كما يعجبه تماهي ميمونة.. وبقية شخصيات الرواية التي أبدع فيها المسعدي.. ويردد في إعجاب بعض مقاطع الرواية وتعجبه شخصية الكائن الخرافي الذي استنبطه. أمضى شهاب عامه في الدراسة لم يكن يأبه بما يدور خارج أسوار الجامعة، كان يقول في قرارة نفسه : - أبناء الفقراء لم يولدوا للسياسة أنا هنا للدراسة والنجاح.. السياسة لاولاد الأغنياء والأثرياء. تعرف بعد مضي فترة من الدراسة على زميلته سحر التي كانت تدرس معه في نفس السنة.. هي ابنة أحدى ولايات الشمال وكانت على قدر كبير من الجمال، أغلب زملائها يتمنون التفاتة منها ولكنها اختارت.. شهاب.. كانا يمضيان أوقات فراغهما معا ويراجعان معا في مكتبة الكلية ويخرجان معا في أوقات الراحة. سحر هي الأخرى محبة للأدب والفن ولأول مرة سمع شهاب من سحر أغان كانت ترددها لما يكونان معا. قالت له هذه الأغاني هي من نوع الأغاني الملتزمة.. كانت تردد أمامه أغاني يطرب لها شهاب وتستهويه كلماتها ومعانيها مثل الأغاني التي كانت على لسان أغلب شباب تلك المرحلة والتي كان يؤديها الشيخ إمام وفرقة البحث الموسيقي بقابس // هيلة هيلة يا مطر // أغنية يحبها كثيرا شهاب. كانت هذه الأغاني تملأ كيانه.. وكثيرا ما طلب من سحر أن تغنيها له لما يكونان في فسحة أو نزهة.. وسحر تتمتع بصوت جميل.. وتحفظ الكثير من أغاني تلك المرحلة.. هو يدرك أن تلك الأغاني الملتزمة تحولت إلى أناشيد ثورية عند أغلب زملائه الطلبة.. أغان كان النظام يمنع بثها في الإذاعات ولكن الشباب كان يتابعها عبر المنتديات الثقافية الطلابية. وبدأت هذه الأغاني تستهوي شهاب وتحرك في داخله إحساسا غريبا بدا يشعر به لأول مرة.. إحساس غذته لديه زميلته سحر.. الوضع العام بالبلاد في تلك السنة شديد التأزم.. أحداث واضطرابات في عديد الجهات الداخلية وفي الكليات أيضا. وذات مرة داهم البوليس اجتماعا طلابيا في فضاء الكلية.. وحاصر كل الطلبة الحاضرين.. وأراد إلقاء القبض عليهم واقتيادهم إلى مراكز الأمن للتحقيق معهم.. تفرق الطلبة في كل اتجاه حتى لا يلقي البوليس عليهم القبض.. فيهم من التحق بالقاعات وفيهم من اختبأ في بعض الأركان وفيهم من جرى وقفز أسوار الكلية. يذكر شهاب الذي جرى مع بقية الطلبة هاربا أن زميلته سحر كانت وراءه وأنها قفزت بصعوبة السور العالي وكادت تصاب بكسر في ساقها لأنها ارتطمت بكدس من الحجارة عندما قفزت السور وتمزق بنطلونها الجديد وقميصها.. حملها شهاب فوق ظهره عندما عجزت هي عن مواصلة السير...