عــنـقــني خطوات لا متناغمة تغطي المكان. بضعة سنتمترات هي الفاصلة بين القدم والاخرى. الأقدام بكل الاتجاهات شمالا جنوبا غربا شرقا. لكل حذاء لون مختلف رغم سيطرة الاسود. يكفي ان تنظر أرضا لتنتبه ان مساحتك صغيرة جدا لا تتجاوز الجمع بين قدميك. كانت واقفة بين الجموع. هنا الكلّ يتساوى. حرارة شديدة تعمّ الفضاء، الهواء تلوّن بالمكان فغاب الاوكسيجين و حضر ثاني اكسيد الكربون. رفعت عينيها عن الأرض بعد أن ثبتت قدميها جيدا. تمسّكت بقطعة من حديد هي فقط مساحتها في الفضاء العلوي. نظرت حولها. وجوه مختلفة الاشكال والبشرات، مختلفة المعاني. هزة أرضية افقدتها توازنها، لامست يدها يد آخر كان شريكها في المقبض الحديدي. يدان تتلامسان فيهرع كلّ صاحب يد لسحبها مع ابتسامة اعتذار خفيفة تكسو الشفاه معلنة قدرية الحدث. عادت وثبتت قدميها ارضا. فلا مجال لفقدان التوازن ها هنا. ما كان سيكون مصيرها لو سقطت؟ كل الجموع لن تسمح بسقوطها بل الاحضان من ستستقبلها. فقط حظّها السعيد ام التعيس مَن سيحدّد بحضن من ستكون.العناق، هذا الفعل الجسدي البسيط العميق، هو ميزة هذا المكان. كم يَلزمك من اللياقة البدنية سيّدتي للمحافظة على وقوفك. احسنت. انت تبليـن حسنا .. فها قد فهمت نظام المكان وانت الغريبة عنه. عادت تتأمل محيطها لكنّ الروائح المحيطة كانت الاقوى. روائح العرق اختلطت بثاني اكسيد الكربون." يا إلهي!!! كيف سأقاوم هذا. كلّ حواسي توقفت الاّ أنفي. كأنيّ به يتسابق بشراسة ليكون الأقوى والأوحد." منقذها الوحيد كان البحث عن النافذة. ففي حافلة عنقني لا اهمية للكراسي، هنا الكل يتكالب على الهواء. شبر من نافذة صغيرة مفتوح. استعمره جسدٌ عرضا. تبخّر حلم وصول الهواء. على بضع خطوات كانت الحياة والاوكسيجين والحريّة، لا الاقدام ستسمح لها بالحركة و لا الأيادي ستسمح لها بالحركة. وذاك الجسد الذي اخذ كلّ النافذة، أيحقُّ له احتكار الهواء؟ ظلت تنظر إلى النافذة القريبة البعيدة. أخذها خيالها بعيدا، فقط لو أنها هناك تقف، لتلاعب الهواء بشعرها فتطاير ذات اليمين وذات اليسار، فقط لو أنها هناك لتحرّر انفها من كل هذه الروائح واكتفى برائحة مازوط الحافلة. فقط لو أنها هناك لشاهدت المدينة من علوّ. حركة يد مجاورة ارتبطت بلفحة عرق قوي تبخر معها الحلم وارتطمت من جديد بواقعها. مكمن الحياة و سرّها في هذه اللحظة غدا الهواء لا الماء.حتى موازين الخلق تحولت ها هنا . كلّما تقدّمت في المكوث وقوفا كانت قطرات العرق تأخذ في التجمّع على وجهها و كامل جسدها. لا سبيل لمسحه. يداها ملوثتان، كما أن تحريك اصبع واحد كفيل بان يفقدها اتزانها و يكون دافع سقوطها في حضن مجهول الهويّة و الهِوَاية و الهوى و الهواء. كلّ الهاءات مجتمعة ستكون مصيرها. كانت تشعر بسيرورة قطرة العرق و تتابعها، ولدت على الجبين و نمت مع بقية اخواتها فكوّنت و هنّ الصُغريات قطرة كبرى و بدأت تنساب تدريجيا و كأنها نهر يسير نحو بحره. لامست الحاجب فالعين جانبيا وتحّركت إلى الخد، بكل حرّية كانت تجوبه في اعوجاج ُمتعَمد لتربكها أكثر وهي العاجزة عن منع ذلك. سارت القطرة تليها القطرة حتى وصلت ذقنها وهناك انتحرت من علو. فلامست أرضية الحافلة فارتوت عرقا باختلاف روائحه. فحتى في العرق لنا حظوظ. مسكينة هذه الأرضية الكل يدوسها قصرا حتى العرق كان له فيها نصيب. لم يكن كافيا الثبوت أرضا فبعض الاقدام مع كلّ المطبات - و ما اكثرها- تفقد شبرها المسموح به لتلامس أخرى. فكان عليها التحلّي بخفّة الحركة حتّى تُخرج قدمها من عناق قدم أخرى. تحركت قدم بجانبها فوقف معها جسد وترك لها الكرسي لتجلس. اخيرا ستريح اعصاب قدميها ويديها، اخيرا ستنجو من عناق تعسفي لا ترغب فيه، اخيرا ستمسح قطرات الصراع على الوقوف. لمحت العيون المحيطة و هي الجالسة الناظرة للجميع من كرسيّ. في هذا المكان تصمت الحروف والكلمات وتترك لباقي الحواس المساحة، اللمس فالشم فالبصر. هنا تتكلم العيون و ما ابلغ لغتها. امرأة كانت ماتزال واقفة. ما تزال تصارع على الثبات، رفعتها عاليا وانزلتها أرضا. مرة فاثنتين. فقط بالعيون فهي العظمى هنا. نظرت إليها بعيون ملآى كرها وغضبا ظلت ترقبها وهي المسالمة الجالسة. و كأنّ الاحساس البشري الازلي بين النساء الذي توارثنه منذ خلق الانسان حاضر هنا و الآن. هناك بعيدا جلست امرأة متقدّمة في السنّ تلتحي لحافا " السفساري " التونسي الأصيل الذيّ لكثرة احتكاكه بالرصيف و الكراسي والايادي اختفى لونه، الحريري الجميل و مال إلى الرمادي، كانت ممسكة بجانب منه أما جانبه الآخر فقد تسّرب إلى أرضيةّ المكان و زاحم الأرجل الممتدة . وضعت المرأة رأسها على الكرسيّ واغمضت عينيها فقد غلبها النعاس. ملامح وجهها المرهقة التعيسة لم تمنعها من الابتسام لكل عين لاقت عينها .و تلك عيون رجالية. لم ترفعها وتنزّلها كما فعلت سابقتها بذاك الكمّ من الكراهية. بعض العيون تصفحتها و كأنها تتصفح مجلة محركها كان الفضول، فكانت تنظر إليها و السبات يسودها ،بعضها نظرات عابرة ترى ولا ترى .تنظر لكل شيء و لا ترى شيئا. نظرة فوقية وجهت لها و هي الجالسة. لم تحمل كرها بل اعجابا آنــيـّــا. نظرات موجّهة إليها مباشرة ،لا تبالي بالمكان ولا الزمان و لا كمّ الحضور .نظرات تعارفيّه مُغلّفة برداء الإعجاب و المودّة المُوزّعة تنبعث من رجــل فآخــر.من تراه يفوز بابتسامة منها تكون دافعه لمواجهة الحشود فقط للقرب من كرسيها. من يدري فقد تولد قصة حب ها هنا .اليس المكان موطنا للحب ؟ ادارت راسها عن العيون. و نظرت خارجا. لماذا يسير الطريق عكسيا؟ لماذا وضع كرسيها عكس السير؟ لعل رغبة في مزيد تدعيم روابط المودّة تُوضع الكراسي في حافلة عنقي موجّهة للوقوف. بدأت تشعر بالدوار فخليط الهواء المسموم مع روائح العرق و الاتجاه العكسي كل ذلك كان دافعا للتذبذب العقلي .حافلة عنقني هي ارث متوارث في وطننا العزيز. نحن شعب نحب الحياة و نحب الحب. الكل يتذمر من حال هذا الوطن و قد هرم اسطوله النقلي، وحدها من أدركت عظمتة ،فهنا، في حافلة عنقني ، يغرس الحب فينا .